في الأيام القليلة الماضية، انتشر نبأ وفاة «صاحب السمو الأمير كريم الحسيني، الآغا خان الرابع، الإمام التاسع والأربعون للمسلمين الشيعة الإسماعيليين والسليل المباشر للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، عن عمر ناهز 88 عامًا»، وفق ما أعلنته شبكة الآغا خان للتنمية. وقد راودتني فكرة الكتابة عنه منذ أكثر من عام، ثم تجددت هذه النية قبل بضعة أشهر، حين أُعلن عن شروط الترشح لجائزة الأغا خان للعمارة في دورتها السادسة عشرة.
غير أن الانشغال حال بيني وبين المضي في ذلك، حتى قرأت خبر وفاته، فعادت إلى ذهني تلك الرغبة القديمة في الكتابة، وزادها إلحاحًا ما قرأته من إشادات واسعة بشخصه وأعماله الخيرية. وقد تضاعف دافعي للكتابة لما تذكرته من كلام إبراهيم السكران عند وفاة محمد أركون، حين احتفت به الصحافة السعودية، وقد كتب كتابه مصحف البحر الميت متعجبًا من موجة الثناء التي حظي بها أركون، وكاشفًا عن جوانب من فكره ومشروعه التي يغفل عنها كثير من المسلمين.
ولست أخفي أنني شعرت بشيء مما شعر به السكران، حين طالعت مظاهر الاحتفاء بالآغا خان، لا سيما لما قرأته عن علاقته الطويلة بالاستعمار وما وقفت عليه من تفاصيل تتعلق بجائزة العمارة. والمفارقة اللافتة أن ثمة صلة بين أركون والآغا خان الرابع وجائزته للعمارة، وهي علاقة يجهلها كثيرون، وسيأتي الحديث عنها بإيجاز في هذا المقال، بعد عرض بعض الإشارات من تاريخ الأغا خان وعلاقته بالاستعمار البريطاني، وما جاء به الآغا خان الثالث من جهود لتوثيق اسمه بأعمال التطوير والتعليم، ومن بعده الآغا خان الرابع بدخوله في مجالات أخرى، من أبرزها مجال العمارة.
بدأت العلاقة بين الآغا خان والاستعمار البريطاني منذ عهد الآغا خان الأول، حسن علي شاه (1800-1881). في تلك الفترة، كان الآغا خان يقيم في بلاد فارس تحت حكم الملك فتح علي شاه، حيث بدأت المصالح السياسية بين الطرفين تتضارب. ومع تصاعد الخلافات، اضطر الآغا خان إلى مغادرة فارس وطلب الحماية من الإمبراطورية البريطانية، ليقيم في الهند ويؤسس هناك مقرًا له.
أثبت الآغا خان ولاءه للبريطانيين، وقدم خدماته لهم في الشؤون الدينية والسياسية، ما عزز مكانته لديهم. واستمر هذا النهج مع الآغا خان الثاني والثالث، اللذين ورثا تحالف الأسرة مع البريطانيين وعززاه. فحصل الآغا خان الثاني على لقب فارس الإمبراطورية الهندية، كما مُنح مقعدًا في المجلس التشريعي في بومباي، لكنه لم يمكث طويلًا، إذ توفي في عام 1885. ثم خلفه الآغا خان الثالث، السلطان محمد شاه (1877-1957)، الذي تلقى تعليمًا تقليديًا ودينيًا، بالإضافة إلى تعليم أوروبي بفضل والدته ذات الخلفية الفارسية النخبوية[1].
برز الآغا خان الثالث، وهو جد الآغا خان الرابع الأمير كريم الحسيني، كزعيم روحي للطائفة الإسماعيلية[2]، مقدما نسبه المباشر، كمن قبله، إلى ابن عم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، علي بن أبي طالب. ومع انتشار أتباع الإسماعيلية في عدة بلدان إسلامية، كان الآغا خان يقوم بزيارات لهذه المناطق لتقديم النصح والدعم، فلم تكن زعامته روحية فقط، بل امتدت إلى المجالات الاجتماعية والتعليمية، حيث بذل جهودًا كبيرة لتطوير مجتمعات الإسماعيليين الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية، ومع ذلك لم تسلم برامجه التعليمية والتطويرية من الصبغة الخاضعة للاستعمار، فقد جاء عنه في مذكراته:
«التعليم، التعليم، التعليم... إذا أمكن من خلال التعليم أن يدرك الملايين في الهند أنهم حُماة وداعمون للتاج البريطاني تمامًا كما هو الحال مع المواطنين البيض في الإمبراطورية، فإن الوعي بأن الهند والمستعمرات ذات الحكم الذاتي مترابطون في المصير، ويقفون معًا أو يسقطون معًا، مرتبطين بمصالح مشتركة وقضية واحدة يجب الحفاظ عليها، سوف يتحقق. من الضروري تزويد الهنود بالتعليم الذي يؤهلهم لدورهم المستقبلي في الإمبراطورية البريطانية[3]».
وفي عام 1907، انتقل الآغا خان الثالث إلى أوروبا، حيث زادت ثروته ونفوذه معًا، وأصبح معروفًا على نطاق واسع ليس فقط بين أتباعه والبريطانيين، بل أيضًا لدى شخصيات بارزة مثل الإمبراطور الألماني وسلطان تركيا وشاه بلاد فارس وغيرهم.
وفقًا لما ذكره باسكارد، أظهر الآغا خان الثالث خلال الحرب العالمية الأولى ولاءً قويًا للبريطانيين، حيث كان يُعتبر أحد أبرز عملائهم وأهم حلفائهم. فخلال الحرب، وجه الآغا خان نداءً إلى العالم الإسلامي يدعوهم فيه إلى تجاهل إعلان الجهاد الذي أصدره السلطان العثماني، وطالب المسلمين بالوقوف إلى جانب الحلفاء الغربيين، وخاصة بريطانيا وفرنسا، على الرغم من أن هاتين الدولتين كانتا في الواقع أكبر قوتين استعماريتين للمسلمين آنذاك. وقد أدى دوره الوسيط أثناء الحرب إلى تعرضه لعدة محاولات اغتيال في سويسرا.
علاوة على ذلك، أدت مشاركة أفراد من عائلته في مهام دقيقة وخطيرة إلى اغتيال أحد أبناء عمومته. وفي عام 1924، نال الآغا خان ترشيحًا لجائزة نوبل للسلام تقديرًا لدوره في تأمين اتفاقية سلام مع الحلفاء الأتراك. كما تم تعيينه رئيسًا لعصبة الأمم في عام 1937،وذلك نظرًا لانخراطه في الشؤون السياسية العالمية، وهو المنصب الذي أكسبه شهرة عالمية وعزّز من مكانته بين أتباعه.
صفحة مجلة نيويورك تايمز 8 يوليو سنة 1923م بعنوان: «الآغا خان، اللندني الأنيق الذي يتمتع بسلطة هائلة في الإسلام- معترف به من قبل العالم الإسلامي بأسره باعتباره السليل المباشر والوريث للنبي محمد وقد يصبح خليفة – مُكرَّم من قبل الملك جورج».
يمكن اعتبار الخطاب التمثيلي الذي انشأه الآغا خان الرابع، والذي اشتمل على شخصه ومشاريع مؤسساته، وحتى جائزته للعمارة، امتدادًا لجهود الآغا خان الثالث في بناء هوية تمثيلية لهذه السلالة. وعلى الرغم من علاقاته المثيرة للجدل وولائه للبريطانيين، فقد نجح الآغا خان الثالث في بناء كاريزما قوية، حظيت بإشادة إعلامية دولية، مما عزز صورته كزعيم «مسلم» مؤثر، ليس فقط لطائفته، بل للعالم الإسلامي بأسره.
فقد لعب الآغا خان الثالث دورًا محوريًا في تشكيل هوية «إسلامية» لطائفته الإسماعيلية، والتي انتشرت لاحقًا في المجتمعات الإسلامية. وعلى الرغم من اعتبار الطائفة الإسماعيلية من قبل غالبية المسلمين السنة بل ومن بعض الفرق الشيعية كفرقة ضالة، إلا أن عائلة الآغا خان استطاعت تعزيز روح تأكيد الذات لهويتهم الإسلامية، مما شكل الأساس لتمثيلهم.
وكان الآغا خان الثالث أول من أدخل إصلاحات على الممارسات الإسماعيلية تهدف إلى إضفاء طابع إسلامي حديث على هويتهم. ففي أوائل القرن العشرين، أجرى سلسلة من التعديلات شملت استبدال الأسماء الهندوسية بأسماء إسلامية في مجموعة «الجنان الرسمية» وهي قصائدهم الدينية المطبوعة عام 1900[4].
كما أنه تحت قيادة الآغا خان الثالث، سعت الجمعية الإسماعيلية في بومباي، التي تأسست عام 1946، إلى إعادة تقديم تاريخ الإسماعيلية، والتي كانت مرتبطة تاريخيًا بالحشاشين حتى القرن التاسع عشر[5]. كما عمل الآغا خان الثالث على ترسيخ صورته كزعيم مسلم من خلال الارتباط الاستراتيجي بالرموز والمواقف الإسلامية، مثل تأسيسه لرابطة «المسلمين في عموم الهند»، وتوليه رئاستها، ومشاركته في حركة الخلافة. كما امتلأت خطاباته بالمفردات الإسلامية والقضايا ذات الصلة بشؤون المسلمين، على الرغم من تأثره بالفكر الليبرالي الغربي[6].
لقد صاغ الأغا خان الثالث هوية تدافع عن التحديث، خاصة في مجالي التعليم والتنمية الاجتماعية، مع التأكيد في الوقت ذاته على إطار إسلامي للتمثيل السياسي. بعبارة أخرى على الرغم من هذا التوجه الإسلامي في خطابه إلا أن مناقشاته حول الإسلام كانت متأثرة بالقيم العلمانية السائدة في المجال الاستعماري، مثل دعم التعليم الغربي وخصخصة الدين[7].
لقد تبنى نهجًا واتبع صيغا تبتعد عن أي صدام سياسي مع القوى الغربية، مستفيدًا من دوره في القضايا الاجتماعية الإسلامية الكبرى. وفي كتابه «الهند في مرحلة انتقالية: دراسة في التطور السياسي»، عرف فلسفته وقدم مفهومه للوحدة الإسلامية الروحية والثقافية باعتبارها أخوة روحية تجمع أبناء النبي، مميزًا إياها عن وحدة الإسلام السياسي التي وصفها بالسطحية.
وفي مذكراته الأخيرة، كشف الآغا خان الثالث عن مرونة طائفته بل وسيولتها، حيث قال:
«لقد نجت الإسماعيلية لأنها كانت دائمًا سائلة.. حتى مجموعة القواعد المعروفة باسم القوانين المقدسة هي توجيهات بشأن الطريقة والإجراءات وليست أوامر مفصلة حول النتائج التي يجب الحصول عليها[8]».
هذا النهج شكّل أساسًا لنسخة معينة من المجال الإسلامي، حافظت على الخصوصيات الاجتماعية والدينية للطائفة الإسماعيلية، بينما سعت إلى التوافق مع المسلمين الآخرين عبر تقديم التزام قوي بالخدمات الاجتماعية للمجتمع الإسلامي الأوسع. وقد واصل الأمير كريم الآغا خان الرابع (1936-2025)، وهو حفيد الآغا خان الثالث الذي أختاره جده خليفة له، هذا النهج عبر تعزيز التمثيل الإسلامي ضمن نفس الإطار العلماني الغربي، الذي يتماشى مع الرؤى السائدة في أواخر القرن العشرين.
ففي هذا السياق، عمد الآغا خان الرابع إلى الزيادة في أسلمة بعض الممارسات الإسماعيلية، مثل استبدال اللغة الغوجاراتية العامية للطقوس باللغة العربية ، وزيادة استخدام القرآن الكريم في خطاباته، وحظر بعض الجنان ذات الطابع الهندوسي[9]، كل ذلك مع الحفاظ على مكانته كإمام حي، و تجنب التورط المباشر في السياسة. وقد تعززت بالفعل هذه الهوية مع تأسيس شبكة «الآغا خان للتنمية» في ستينيات القرن العشرين، حيث وصفه الباحث جون إسبوزيتو بأنه «إمام حي تمكن من إعادة تفسير الإسلام ليستجيب للحياة الحديثة»[10].
تُعد جائزة الآغا خان للعمارة واحدة من أبرز الجوائز المعمارية على المستوى العالمي، أُطلقت عام 1976 بمبادرة من الآغا خان الرابع، الذي أعلن أن الجائزة تُعنى بشكل أساسي بمسألة الهوية الإسلامية في علاقتها بالعمارة والتخطيط الحضري، وذلك بهدف تكريم التميز المعماري في العالم الإسلامي. فبحسب الآغا خان الرابع، فإن التنمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببناء الهوية، حيث إن أي توجه نحو التنمية دون هوية واضحة قد يكون مضللاً. لذلك، تهدف الجائزة في ظل رؤيته إلى توفير منصة لمناقشة أزمة الهوية الحديثة في العالم الإسلامي في ظل ما بعد الحداثة[11].
استند الآغا خان الرابع إلى الزخم الذي أحدثه مهرجان العالم الإسلامي 1976 في لندن، الذي كان حدثًا بارزًا في تمثيل الإسلام وإنتاجاته التي تشمل الجمالية والفنية منها[12]. وقد تبنت جائزة الآغا خان للعمارة هذا الزخم، واستمرت في ترويج خطابه، ثم قامت لاحقًا بإعادة تشكيله.
وقد بدأت الجائزة بمبادرات قوية تدعم بعضها البعض، وساعدت مؤسسة الآغا خان، التي أُنشئت قبل إعلان الجائزة، في ترسيخ اسم الآغا خان من خلال التعاون الوثيق مع منظمة اليونسكو[13]. كما عززت جهود المؤسسة في مجالات التعليم من مكانتها عبر إنشاء جامعات الآغا خان، إلى جانب مؤسسات تعليمية وصحية وخدمات تخطيط وبناء.
تندرج الجائزة تحت مظلة شبكة الآغا خان للتنمية «AKDN»، وهي واحدة من أكبر شبكات التنمية الخاصة في العالم، ومنها تفرعت عدة مؤسسات أخرى. وقد تم إنشاء الجائزة ضمن مؤسسة الآغا خان للثقافة «AKTC»، والتي تُعرّف بأنها «مؤسسة خيرية خاصة غير طائفية تُعنى بالبعد الثقافي للتنمية». وقد ساهم إنشاء هذه المؤسسات في إضفاء الشرعية على الجائزة وتعزيز انتشار خطابها وتأثيره.
الجائزة هي جائزة تقام كل ثلاث سنوات، ويترأس لجنتها التوجيهية الآغا خان نفسه دائمًا، رغم عدم امتلاكه أي خبرة في مجال العمارة، حيث يقوم باختيار لجنة تحكيم رئيسية مكوّنة من تسعة أعضاء. وتتميز كل من اللجنة التوجيهية ولجنة التحكيم بتنوع أعضائها، حيث تضم أكاديميين وممارسين معماريين مرموقين، غالبيتهم تلقوا تعليمهم في جامعات غربية أو ذات نمط غربي، ويعيشون أو تدربوا في الغرب. ومن بين الأسماء البارزة التي شاركت في الجائزة: حسن فتحي، أوليغ غرابار، أرَاتا إيسوزاكي، فرانك جيري، تشارلز مور، روبرت فينتوري، المفكر فريدريك جيمسون، زها حديد، محمد يونس، ومحمد أركون.
وقد سعت الجائزة إلى إضفاء الشرعية على نفسها من خلال عدة استراتيجيات، منها القوة المالية الهائلة، حيث تُعتبر الجائزة الأكبر من حيث التمويل في مجال الممارسة المعمارية، حيث استثمر الآغا خان الرابع مبالغ طائلة، ليس فقط في قيمة الجائزة نفسها «التي تبلغ حوالي مليون دولار إجمالًا»، ولكن أيضًا في استقطاب أعضاء بارزين، وتنظيم احتفالات راقية، وإنتاج منشورات عالية الجودة. هذه العوامل كلها لعبت دورًا في التأثير على المعماريين والرأي العام[14].
ثانيا من خلال الاعتماد على شخصيات فكرية ومعمارية غربية بارزة، حيث دعمت الجائزة خطابها من خلال برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية «AKPIA»، الذي تأسس في أرقى الجامعات، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT» وجامعة هارفارد، تحت إشراف مؤسسة الآغا خان للثقافة. يُذكر أن البرنامج تلقى تمويلًا أوليًا بقيمة 11.6 مليون دولار من الآغا خان.
وتم تعيين شخصيات بارزة في الدراسات الإسلامية، مثل أوليغ غرابار، في مناصب تدريسية ضمن البرنامج، مما عزز من مكانة الجائزة في الأوساط الأكاديمية الغربية. فضلاً عن ذلك، كان علماء مهرجان عالم الإسلام؛ حسين نصر وتيتوس بوركهارت، من بين المساهمين الأوائل في جائزة الآغا خان المدعوين من قبل اللجنة التوجيهية. وهما من أبرز المنظرين في مجال العمارة الإسلامية.
من خلال هذه الاستراتيجيات، استطاعت جائزة الآغا خان للعمارة أن تؤسس لنفسها مكانة قوية على الساحة المعمارية، وأن تُشكّل خطابًا يجمع بين الإسلام والحداثة ضمن إطار عالمي، مع الحفاظ على علاقاتها الوثيقة بالمؤسسات الغربية الأكاديمية والثقافية.
محمد أركون والآغا خان الرابع الأمير كريم الحسيني في حفل توزيع جائزة الآغا خان للعمارة لعام 1986، مراكش، المغرب، (المصدر مقوقع: AKAA)
ارتبط اسم محمد أركون بجائزة الآغا خان منذ سنواتها الأولى، حيث يمكن اعتباره الممثل الفكري الاسلامي للوكالة التمثيلية للجائزة. لعب أركون دورًا مهمًا في تشكيل الخطاب المعاصر لجائزة الآغا خان، إذ شارك منذ عام 1983 في اللجنة التوجيهية (1983، 1986، 1989، 1992) ولجنة التحكيم (1995، 1998)، بالإضافة إلى مساهماته في ندوات الجائزة ومنشوراتها.
تم ضمه إلى فريق لجنة التحكيم الرئيسية ليكون له تأثير مباشر على قرارات الجائزة، مما ساعد في تصويره كوكيل لإعادة التفكير. وهكذا، أصبحت كتاباته وأفكاره تشكل فلسفة الجائزة وتمثيلها. ولم تقتصر علاقته بالآغا خان على الجائزة فقط، بل كان أركون أيضًا على اتصال بشبكة الآغا خان للتنمية والمعهد الإسماعيلي كعضو في مجلس إدارتهما.
محمد أركون، وهو مفكر إسلامي فرنسي من أصول جزائرية، دعا بقوة إلى إعادة التفكير في الإسلام في العصر الحديث. شغل مناصب أكاديمية في العديد من الجامعات الغربية، منها جامعة السوربون الجديدة، وجامعة برلين للعلوم، ومعهد برينستون للدراسات المتقدمة، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وجامعة تيمبل، وجامعة لوفان الكاثوليكية، وجامعة برينستون.
برز أيضًا في الحياة العامة من خلال عمله مع مؤسسات وطنية ودولية، منها ثلاث مؤسسات مرتبطة بجائزة الآغا خان: شبكة الآغا خان للتنمية، والمعهد الإسماعيلي، واليونسكو. وعلى الرغم من أن أعماله قوبلت برفض شديد من قبل العديد من العلماء المسلمين البارزين في العالم الإسلامي، إلا أن الحكومة الفرنسية كرّمته عبر تسمية مكتبة باسمه. ويبقى السؤال: لماذا تم اختيار أركون تحديدًا لتمثيل جائزة الآغا خان؟
بالنظر إلى السياق التاريخي الذي اكتسب فيه أركون سمعته، يمكن فهم كيفية تقاطعه مع إطار الجائزة وأهدافها. ففي أعقاب أحداث السبعينيات، حيث تم الترويج للإسلام كبديل للحداثة، شهد العقد التالي تحولًا كبيرًا في تمثيل الإسلام عالميًا. ومع صعود قضايا مثل الثورة الإيرانية و«الصحوة الإسلامية»، أصبح الإسلام موضوعًا محوريًا في المجال السياسي الغربي.
في هذا السياق، تحوّلت الدراسات المتعلقة بالإسلام من التركيز على العقيدة إلى اعتباره نظامًا ثقافيًا يعالج قضايا الهوية والتمثيل[15]. ونتيجة لذلك، زاد الطلب على تفسيرات جديدة للإسلام تهدف إلى تقديم منظور بديل للتفسيرات الأصولية التي تتعارض مع القيم الغربية العلمانية.
في هذا الإطار، شرع الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، في حملة فكرية طموحة لتحويل الإسلام من الداخل، وذلك من خلال دعم مصلحين مسلمين ليبراليين أو معتدلين. وترى الباحثة سابا محمود أن هؤلاء المفكرين اعتمدوا نهجًا مشتركًا في تفسير النصوص الدينية، حيث رأى الغرب أن المشكلة الأساسية للإسلام الأصولي تكمن في تفسير النصوص الدينية.
ومن ثم، كان الحل في تأريخ القرآن، بحيث يُنظر إليه ليس بناءً على مزاعمه اللاهوتية، بل على الثقافة والتاريخ، وأن يُقدَّر لقيمته الثقافية كموضوع للتقدير الجمالي والشعري والروحي، بدلاً من اعتباره مصدرًا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة مشكلات الوجود المعاصر[16].
ومن خلال هذه اللحظة التاريخية للإسلام في الغرب، وجد أركون موقعه في الأكاديمية الفرنسية، لا سيما مع تزايد القضايا المرتبطة بالمسلمين في فرنسا مثل قضية الحجاب الأولى وعلى المستوى الدولي مثل قضية سلمان رشدي. قدّم أركون مشروعه الفكري كاستجابة للطلب المتزايد على إعادة تفسير الإسلام، بهدف التأثير في النقاش العام.
وفي كتابه «نقد العقل الإسلامي»، أخضع النصوص الإسلامية لتحليل نقدي، مستخدمًا أدوات التاريخ، والمقارنة، والتفكيك اللغوي، والتأملات الفلسفية[17]. وبالتالي لاقى نهج أركون في دراسة الإسلام صدى مع التمثيل الجديد للجماليات الإسلامية الذي قدمه الآغا خان. فقد توافق كلاهما على استخدام الأدوات الحديثة لإعادة تفسير الإسلام وتمثيله، من أجل تعزيز الوعي الذاتي للمجتمعات المسلمة بأسلوب يُفترض أنه بعيد عن الأيديولوجية.
في الختام، لا يسع هذا المقال كل ما يمكن قوله، وإني لأسمع سائل يسأل: ألم ينجز لنا هؤلاء كذا وكذا؟ غير أني لا أجد أبلغ من كلمات محمود شاكر في هذا المقام، إذ قال:
«وكل عاقل يستطيع أن يرى تماثيل الأبطال القدماء من صنائع الاستعمار، وهي تتهاوى في قبور الثرى، وفي حفر النسيان.. وكل عاقل يستطيع أن يبصر في هذه الظلمة المتبلبلة أنامل الاستعمار.. وهي تصنع للشعب دمى من الأبطال الكذبة، ليخرجوهم على أعين الناس في مسرحية .. لكي ينخدع الشعب بهم ويطمئن إلى أعمالهم، وليحلوا بعد قليل محل الجيل الفاني من صنائعه. ويتم كل ذلك بأسلوب طبيعي، على التدريج، وبلا مفاجأة، حتى لا يكون الأمر مدعاة إلى الريبة، بل إلى الاطمئنان والرجاء تارة، والإعجاب والعذر تارة أخرى.»